
مقدمة
شهد الحقل التربوي في العقود الأخيرة تحولات كبيرة على مستوى المناهج وطرائق التدريس، حيث انتقل التركيز من مجرد تلقين المعارف إلى تنمية الكفايات والقدرات العقلية والمهارية لدى المتعلمين. ومن أبرز المفاهيم التي ساهمت في هذا التحول نجد الوضعية المشكلة، التي أصبحت مكوناً أساسياً في المقاربة بالكفايات، وأداة بيداغوجية فعالة لبناء التعلمات وتطوير قدرات التفكير وحل المشكلات.هذا المقال يقدم دراسة شاملة حول الوضعية المشكلة، من حيث تعريفها، خصائصها، أنواعها، وأهميتها، مع أمثلة تطبيقية توضح كيفية توظيفها داخل القسم.
ما هي الوضعية المشكلة؟
الوضعية المشكلة هي وضعية تعليمية-تعلمية يواجه فيها المتعلم مشكلة أو سؤالاً معقداً يستدعي تعبئة مكتسباته السابقة وتوظيفها في سياق جديد من أجل الوصول إلى حل أو إنتاج معين.بمعنى آخر، فهي موقف واقعي أو شبه واقعي يضع المتعلم أمام تحدٍ يستدعي التفكير والتحليل والتركيب، مما يدفعه إلى بناء معارف جديدة أو إعادة تنظيم معارفه السابقة.
تعريفات مختلفة للوضعية المشكلة
- حسب بيداغوجيا الكفايات: هي وضعية ذات دلالة، تطرح على المتعلم إشكالاً يحفزه على البحث عن الحل عبر تعبئة معارفه ومهاراته.- حسب المختصين في التربية: هي وضعية مركبة تمثل تحدياً معرفياً أو عملياً لا يمكن حله بالاعتماد على المعلومات الجاهزة فقط، بل تستدعي توظيف موارد متنوعة.
مكونات الوضعية المشكلة
لكي تكون الوضعية المشكلة فعالة، فهي تتكون من عناصر أساسية، من أهمها:1. السياق: الإطار العام أو الوضع الذي تُطرح فيه المشكلة، ويجب أن يكون ذا معنى وقريباً من الواقع.
2. التعليمات أو المطلوب: صياغة واضحة للمهمة أو التحدي الذي على المتعلم إنجازه.
3. الموارد: المعارف والمهارات والقدرات التي ينبغي تعبئتها من أجل الحل.
4. المنتوج المنتظر: النتيجة أو الحل الذي يجب أن يصل إليه المتعلم.
خصائص الوضعية المشكلة
لكي تحقق الوضعية المشكلة أهدافها، يجب أن تتوفر على مجموعة من الخصائص، من أبرزها:- الجدة: أن تقدم للمتعلم وضعية جديدة نسبياً بالنسبة لمعارفه، بحيث يشعر بوجود تحدٍ.
- الدلالة: أن تكون ذات معنى ومرتبطة بحياة المتعلم واهتماماته.
- التعقيد: أن تستدعي تعبئة موارد مختلفة (معارف، مهارات، قدرات)، وألا تكون بسيطة يمكن حلها مباشرة.
- إثارة التفكير: أن تدفع المتعلم إلى التحليل، الفرضية، الاختيار، والمقارنة قبل الوصول إلى الحل.
- إمكانية الحل: رغم صعوبتها، يجب أن تكون قابلة للحل بواسطة الموارد التي يملكها المتعلم أو يمكن أن يكتسبها.
أنواع الوضعيات المشكلة
يمكن تصنيف الوضعيات المشكلة إلى عدة أنواع، بحسب السياق والأهداف التربوية:1. الوضعية المشكلة التعلمية
تهدف إلى بناء التعلمات الجديدة. يواجه المتعلم مشكلة تجعله في حاجة إلى اكتساب معرفة أو مهارة جديدة من أجل الحل.مثال: في درس الرياضيات حول الكسور، يُطرح على المتعلم مشكل توزيع كعكة على عدد غير متساوٍ من الأشخاص، مما يدفعه لاكتشاف مفهوم الكسر.
2. الوضعية المشكلة الإدماجية
تهدف إلى دمج الموارد المكتسبة سابقاً في سياق جديد. الغرض منها التأكد من قدرة المتعلم على توظيف معارفه بشكل متكامل.مثال: في مادة اللغة العربية، يُطلب من المتعلم كتابة نص وصفي موظفاً القواعد التي تعلمها (النعت، الجملة الاسمية، أدوات الربط…).
3. الوضعية المشكلة التقييمية
تستخدم لتقويم الكفايات ومدى تمكن المتعلم من تعبئة الموارد لحل وضعيات مركبة.
مثال: في مادة العلوم، يُعطى المتعلم وضعية تتعلق بظاهرة بيئية، ويُطلب منه تفسيرها اعتماداً على مكتسباته حول التوازن البيئي.
خطوات بناء الوضعية المشكلة
لكي يتمكن المدرس من صياغة وضعية مشكلة فعالة، يمكن اتباع الخطوات التالية:
1. تحديد الهدف التعلمي أو الكفاية المستهدفة.
2. اختيار سياق مناسب يرتبط بحياة المتعلم ويثير اهتمامه.
3. صياغة الإشكال بشكل واضح ودقيق، مع الحرص على أن يتضمن تحدياً معرفياً.
4. تحديد الموارد التي ينبغي تعبئتها (معارف، مهارات…).
5. اقتراح تعليمات دقيقة توجه المتعلم نحو المطلوب دون أن تعطيه الحل مباشرة.
6. تحديد المنتوج المنتظر الذي يمثل مخرجات الوضعية.
دور المدرس في توظيف الوضعية المشكلة
- اختيار الوضعيات المناسبة لمستوى المتعلمين.- تسيير النقاش وإثارة التفكير دون إعطاء الأجوبة الجاهزة.
- تشجيع العمل الفردي والجماعي.
- مساعدة المتعلمين على استثمار مواردهم السابقة وبناء معارف جديدة.
أهمية الوضعية المشكلة في التعليم
الوضعية المشكلة ليست مجرد تقنية، بل هي فلسفة تربوية تقوم على جعل المتعلم محور العملية التعليمية. من أبرز أهميتها:1. تنمية الكفايات: إذ تجعل المتعلم قادراً على تعبئة معارفه ومهاراته في سياقات جديدة.
2. تعزيز التعلم النشط: حيث ينخرط المتعلم في البحث والتحليل بدل التلقي السلبي.
3. تنمية التفكير الناقد والإبداعي: لأنها تدفع المتعلم إلى تحليل المشكلات والبحث عن حلول مبتكرة.
4. الارتباط بالواقع: فهي تجعل التعلمات أكثر دلالة وقرباً من حياة المتعلم.
5. تثبيت التعلمات: لأن المتعلم يكتشف المعرفة بنفسه، فيترسخ أثرها بشكل أعمق.
تحديات توظيف الوضعية المشكلة
رغم أهميتها، يواجه المدرسون عدة صعوبات في توظيفها، منها:- ضيق الزمن المدرسي.
- ضعف تكوين بعض المدرسين في صياغة الوضعيات.
- تفاوت مستويات المتعلمين.
- الاكتظاظ داخل الأقسام.
خاتمة
تعتبر الوضعية المشكلة أداة تربوية فعالة وركيزة أساسية في بيداغوجيا الكفايات، إذ تتيح للمتعلمين مواجهة مواقف معقدة تستدعي التفكير، التحليل، والتعبئة المتكاملة للمعارف. وهي بذلك تمثل مدخلاً حقيقياً لبناء التعلمات وتنمية القدراتالعقلية والمهارية لدى المتعلمين. لكن نجاحها يظل رهيناً بقدرة المدرس على صياغتها وتوظيفها بشكل ملائم، وبتهيئة الظروف الداعمة داخل الفصل الدراسي.
ماهي المراجع المعتمدة
ردحذف